فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}.
شتان بين أمة وأمة؛ أمة يختارهم نبيُّهم- عليه السلام، وبين أمة اختارها الحقُّ- سبحانه، فقال: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ} [الدخان: 32].
الذين اختارهم موسى قالوا: {أرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء: 153] والذين اختارهم الحق سبحانه قال الله تعالى فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22].
ويقال إن موسى عليه السلام جاهر الحقَّ سبحانه بنعت التحقيق وفارق الحشمة وقال صريحًا: {إنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} ثم وَكَلَ الحكمَ إليه فقال: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ} ثم عقَّبها ببيان التضرع فقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}، ولقد قدَّم الثناءَ على هذا الدعاء فقال: {أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}. اهـ.

.قال ابن القيم:

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة البسط والتخلي عن القبض:
وهي منزلة شريفة لطيفة وهي عنوان على الحال وداعية لمحبة الخلق وقد غلط صاحب المنازل حيث صدرها بقوله تعالى حاكيا عن كليمه موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] وكأنه فهم من هذا الخطاب: انبساطا بين موسى وبين الله تعالى حمله على أن قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} وسمعت بعض الصوفية يقول لآخر وهما في الطواف لما قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} تدارك هذا الانبساط بالتذلل بقوله: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155] أو نحو من هذا الكلام وكل هذا وهم وفهم خلاف المقصود فالفتنة هاهنا: هي الامتحان والاختبار كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16- 17] وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] والمعنى: أن هذه الفتنة اختبار منك لعبدك وامتحان تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فأى تعلق لهذا بالانبساط وهل هذا إلا توحيد وشهود للحكمة وسؤال للعصمة والمغفرة وليس للعارف في هذه المنزلة حظ مع الله وإنما هي متعلقة بالخلق وصاحب المنازل: جعلها ثلاث درجات الأولى: مع الناس والثانية والثالثة: مع الله وسنبين ما في كلامه بحول الله وقوته وتوفيقه قال: الانبساط: إرسال السجية والتحاشي من وحشة الحشمة السجية الطبع وجمعها سجايا يقال: سجية وخليفة وطبيعة وغريزة وإرسالها تركها في مجراها والتحاشي من وحشة الحشمة التحاشي: هو تجنب الوحشة الواقعة بينك وبين من تحبه وتخدمه فإن مرتبته تقتضي احتشامه والحياء منه وإجلاله عن انبساطك إليه وذلك نوع وحشة فالانبساط: إزالة تلك الوحشة لا تسقطك من عينه بل تزيدك حبا إليه ولاسيما إذا وقع في موقعه قال: وهو السير مع الجبلة أي المشي مع ما جبل الله عليه العبد من الأخلاق من غير تكلف قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الانبساط مع الخلق وهو أن لا تعتزلهم ضنا على نفسك أو شحا على حظك وتسترسل له في فضلك وتسعهم بخلقك وتدعهم يطؤونك والعلم قائم وشهود المعنى دائم يريد: لا تبخل عليهم بنفسك فيحملك ذلك البخل على اعتزالهم وتشح بحظك في الخلوة وراحة العزلة: أن تذهب بمخالطتهم بل تحملك السماحة والجود والبذل على أن تترك ذلك لراحة إخوانك بك وانتفاعهم بمجالستك فتتكرم عليهم بحظك في عزلتك وخلوتك وتؤثرهم به على نفسك وهذا من الفتوة والمروءة والتخلق ضد من أضدادها قوله: وتسترسل لهم في فضلك.
يعني: إذا استرسلت معهم ولم تجذب عنهم عنانك: نالوا من فضلك فيكون استرسالك سببا لنيلهم لفضلك وقبض العنان سببا للحرمان وتسعهم بخلقك باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة فخذ منهم ما أمر الله نبيه أن يأخذه من أخلاق الناس وهو العفو وتدعهم يطؤونك أي يدوسونك من لينك وتواضعك وخفض جناحك بحيث لا تترك لنفسك بينهم رتبة تتقاضاهم أن يحترموك لأجلها هذا معنى كلامه وقوله: والعلم قائم وشهود المعنى دائم أما قيام العلم: فهو أن يكون هذا الاسترسال موافقا للشرع غير مخرج عن حدوده وآدابه بحيث لا تحملهم على تعدي حدود الله وتضييع حقه وحقوق عباده وأما دوام شهود المعنى فهو حفظ حالك وقلبك مع الله ودوام إقبالك عليه بقلبك كله فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط ومفارقهم بقلبك وسرك مشاهدا للمعنى الذي به حياتك فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح فإذا فات العبد علته الكآبة وغمره الهم والغم والأحزان وتلون في أفعاله وأقواله وتاه قلبه في الأودية والشعاب وفقد نعيم الدنيا والآخرة وهذا هو الذي أشار إليه يحيى الصرصري في قوله:
إذا صار قلب العبد للسر معدنا ** تلوح على أعطافه بهجة السنا

وإن فاته المعنى علته كآبة ** فأصبح في أفعاله متلونا

فمتى كان شهود هذا المعنى قائما في قلبك: لا يضرك مخالطة من لا تسلبك إياه مخالطته والانبساط إليه.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: الانبساط مع الحق وهو أن لا يحبسك خوف ولا يحجبك رجاء ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء يريد: أن لا يمنعك عن الانبساط إليه خوف فإن مقام الخوف لا يجامع مقام الانبساط والخوف من أحكام اسم القابض والانبساط من أحكام اسم الباسط والبسط عندهم: من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتودد والرحمة والقبض من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام وبعضهم يجعل الخوف من منازل العامة والانبساط من منازل الخاصة إذ الانبساط لا يكون إلا للعارفين أرباب التجليات وليس في حق هؤلاء خوف وأما قوله: ولا يحجبك رجاء فلأن الراجي لطلبه حاجته تحتاج إلى التملق والتذلل فيحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه كالسائل للغني فإن سؤاله وطمعه يمنعه من انبساطه إليه فإذا غاب عن ذلك انبسط وقوله: ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء استعارة والمعنى: أنك تراه أقرب إليك من أبيك وأمك وأرحم بك منهما وأشفق عليك فلا توسط بينك وبينه أبا خرجت من صلبه ولا أما ركضت في رحمها.
وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى أنك تشاهد خلقه لك بلا واسطة كما خلق آدم وحواء فتشاهد خلقه لك بيده ونفخه فيك من روحه وإسجاد ملائكته لك وإبعاد إبليس حيث لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم.
وهذا يوجب لك شهود الانطواء عن الانبساط وهو رحب الهمة لانطواء انبساط العبد في بسط الحق جل جلاله ومعنى هذا: أن لا يرى العبد لنفسه انبساطا ولا انقباضا بل ينطوي انبساطه ويضمحل في صفة البسط التي للحق جل جلاله وهذا شهود معنى اسم الباسط عز وجل فهذا تقدير كلامه على أن فيه مقبولا ومردودا ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالرب تعالى ألبتة وأما تعلقها بالخلق: فصحيح.
نعم هاهنا مقام اشتباه وفرق وهو أن المحب الصادق: لابد أن يقارنه أحيانا فرح بمحبوبه ويشتد فرحه به ويرى مواقع لطفه به وبره به وإحسانه إليه وحسن دفاعه عنه والتلطف في إيصاله المنافع والمسار والمبار إليه بكل طريق ودفع المضار والمكاره عنه بكل طريق وكلما فتش عن ذلك اطلع منه على أمور عجيبة لا يقف وهمه ومقتبسه لها على غاية بل ما خفي عنه منها أعظم فيداخله من شهود هذه الحالة نوع إدلال وانبساط وشهود نفسه في منزلة المراد المحبوب ولا يسلم من آفات ذلك إلا خواص العارفين.
وصاحب هذا المقام نهايته: أن يكون معذورا وما يبدو منه من أحكامه بالشطحات أليق منه بأحكام العبودية ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة والحظوة والجاه: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى فكان أشد الخلق لله خشية وتعظيما وإجلالا وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب إلى الانبساط مع رب الأرباب نعم لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به وابتهاجه وقرة عينه ونعيمه بحبه والشوق إلى لقائه: إلا كثيف الحجاب حجري الطباع فلا بهذا الميعان ولا بذاك الجمود والقسوة وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم وفتحوا للمقالة فيهم بابا فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز وجل المنكس الرأس بين يديه الذي لا يرضى لربه شيئا من عمله: هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيليا ولا يرى نفسه محسنا قط وإن صدر منه إحسان: علم أنه ليس من نفسه ولا بها ولا فيها وإنما هو محض منة الله عليه وصدقته عليه فما لهذا والانبساط نعم انبساطه انبساط فرح وسرور ورضى وابتهاج فإن كان المراد بالانبساط هذا: فلا ننكره لكنه غير الاسترسال المذكور والاستشهاد عليه بالآية يبين مراده والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (156):

قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفًا على سؤاله فيه: {واكتب لنا} أي في مدة إحيائك لنا {في هذه الدنيا} أي الحاضرة والدنية {حسنة} أي عيشة راضية طيبة {وفي} الحياة {الآخرة} أي كذلك؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنا هدنا} أي تبنا {إليك} أي عما لا يليق بجنابك كما أمرتنا أن نخبر ما عساه يقع منا بالمبادرة إلى التوبة، فبدأ بذكر عزة الربوبية وثنى بذلة العبودية وهما أقوى أسباب السعادة، وهذا تلقين لهم وتعليم وتحذير من مثل ما وقعوا فيه وحث على التسليم، وكأنه لما كان ذنبهم الجهر بما لا يليق به سبحانه من طلب الرؤية، عبر بهذا اللفظ أو ما يدل على معناه تنبيهًا لهم على أن اسمهم يدل على التوبة والرجوع إلى الحق والصيرورة إلى الصلاح واللين والضعف في الصوت والاستكانة في الكلام والسكوت عما لا يليق، وأن يهودا الذي أخذ اسمه من ذلك إنما سموا به ونسبوا إليه تفاؤلًا لهم ليتبادروا إلى التوبة.
ولما كان في كلامه عليه السلام إنكار إهلاك الطائع بذنب العاصي وإن كان ذلك إنما كان على سبيل الاستعطاف منه والتملق مع العلم بأنه عدل منه تعالى وله أن يفعل ما يشاء بدليل قوله: {ولو شئت أهلكتهم من قبل وإياي} [الأعراف: 155] استأنف سبحانه الإخبار عن الجواب عن كلامه على وجه منبه للجماهير على أن له التصرف المطلق بقوله: {قال عذابي} أي انتقامي الذي يزيل كل عذوبه عمن وقع به {أصيب به} أي في الدنيا والآخرة {من أشاء} أي أذنب أو لم يذنب {ورحمتي} أي إنعامي وإكرامي.
ولما كان الإيجاد من الرحمة فإنه خير من العدم فهو إكرام في الجملة، قال: {وسعت كل شيء} أي هذا شأنها وصفتها في نفس الأمر وإن بلغ في القبائح ما عساه أن يبلغ، وهذا معنى حديث أبي هريرة في الصحيح «إن رحمتي سبقت- وفي رواية: غلبت- غضبي» سواء قلنا: إن السبق بمعنى الغلبة، أو قلنا إنه على بابه، إما الأول فلأن تعلق الرحمة أكثر، لأن كل ما تعلق به الغضب تعلقت به الرحمة بإيجاد وإفاضة الرزق عليه، ولا عكس كالحيونات العجم والجمادات وأهل السعادة من المؤمنين والملائكة والحور وغيرهم من جنود الله التي لا تحصى.
ولما أعلم أن رحمته واسعة وقدرته شاملة، وكان ذلك موسعًا للطمع، سبب عن ذلك قوله ذاكرًا شرط إتمام تلك الرحمة ترهيبًا لمن يتوانى عن تحصيل ذلك الشرط: {فسأكتبها} أي أخص بدوامها بوعد لا خلف فيه لأجل تمكني بتمام القدرة مما أريد مبتوتًا أمرها بالكتابة {للذين يتقون} أي يوجد لهم هذا الوصف الحامل على كل خير ولا يخلّ بوسعها أن أمنع دوامها بعد الإيجاد من غيرهم، فإن الكل لو دخلوا فيها دائمًا ما ضاقت بهم، فهي في نفسها واسعة ولكني أفعل ما أشاء.
ولما ذكر نظرهم إلى الخالق بالانتهاء عما نهى عنه والائتمار بما أمر به، أتبعه النظر إلى الخلائق فقال: {ويؤتون الزكاة} ولعله خصها لأن فرضها كان في هذا الميقات كما تقدم في البقرة ولأنها أمانة فيما بين الخلق والخالق كما أن صفات النبي صلى الله عليه وسلم التي كتبها لهم وشرط قبول أعمالهم باتباعه كذلك؛ ثم عمم بذكر ثمرة التقوى فقال مخرجًا لمن يوجد منه ذانك الوصفان في الجملة على غير جهة العموم: {والذين هم بآياتنا} أي كلها {يؤمنون} أي يصدقون بالقلب ويقرون باللسان ويعملون تصديقًا لذلك بالأكارن، فلا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض. اهـ.